المادة    
إن علم الله تعالى هو المرتبة الأولى من مراتب القدر، فإن كل إنسان مؤمن بالله سبحانه وتعالى، عارف به عز وجل -ولو على سبيل الإجمال- من أصحاب الملل جميعاً؛ لابد أن يؤمن بأن الله تبارك وتعالى عليم، فكل من آمن بأن لهذا الكون إلهاً خالقاً محيياً مميتاً، فلابد أن يؤمن بأنه عليم؛ لأن ما في هذا الكون من موجودات دليل قاطع على إله عليم، قال تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14].
فلازم كونه خالقاً أن يكون عليماً، وإلا فكيف يخلق وهو لا يعلم ما يخلق؟!
ولا سيما إذا علمنا أن معبود أي عابد يمثل في ذهنه الكمال المطلق من جميع الوجوه، والمنزه من جميع العيوب؛ إذ لو كان فيه عيب لما عبده، ولرأى أن غيره ممن لا عيب فيه أولى منه.
ولذلك فكل من أراد أن يصف الله سبحانه وتعالى، فإن من أكمل الصفات، ومن أوجب صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وألزمها: الإيمان بأن الله تعالى عليم، ومن هنا كان الخلاف في صفة العلم خلافاً عظيماً جداً، فهو مفرق طريق بين الإيمان وبين الكفر، وقد ذكرنا أن من أنكر علم الله تعالى من القدرية هم القدرية الغلاة، وهم كفار. وقد أخذوا دينهم من الملل والطوائف الأخرى الذين أنكروا علم الله تعالى.
  1. ضلال المشركين والصوفية والرافضة في مسألة علم الله تعالى

    يقول المصنف رحمه الله: [وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم، وما أظهر من علمه الذي لا يحاط به، وكتابة مقادير الخلائق.
    وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم]، أمم وطوائف ضلوا في الإيمان بعلم الله وكتابته. وهم قد ضلوا في كثير من الأمور إلا أنه يجمعهم الضلال في هذا الأمر.
    فمنهم: المشركون الذين يزعمون أو يدَّعون لآلهتهم ومعبوداتهم العلم المطلق، فإن بعض الطوائف تدعي أن معبودها -أو من تعظمه- يعلم الغيب؛ سواء نفت ذلك عن الله تعالى وجعلته لذلك المعبود، كما تفعله بعض أمم الشرك في الأرض قديماً وحديثاً، أو جعلوا له العلم المطلق -أو علم الغيب- مع إيمانهم بعلم الله تعالى، أي: أشركوا بالله في صفة من صفاته، فجعلوا هذه الصفة التي هي من خصائص الألوهية لذلك البشر، وهذا ظاهر وموجود حتى في هذه الأمة، فإن من المنتسبين للإسلام من هذا دينه وديدنه؛ فإن منهم مَنْ جعل علم الغيب المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء البوصيري صاحب البردة حين قال:
    فإن من جودك الدنيا وضرتها            ومن علومك علم اللوح والقلم
    فجعل علم اللوح والقلم -وهي الكتابة التي هي مقتضى العلم ومطابقه- جعلها جزءاً من علوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما كتب في اللوح المحفوظ هو ما كان وما هو كائن وما سيكون، قال تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12]، فمعنى البيت: أن معرفة كل شيء جزء من علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صريح -نسأل الله العفو والعافية- وليس بعد هذا الغلو في هذه المسألة من غلو.
    ومنهم من نسب ذلك إلى الأولياء، وما أكثر ما ينسب الصوفية ذلك إلى أوليائهم، فإن القادرية تدعي ذلك لـعبد القادر الجيلاني، والأحمدية البدوية تدعيه لـأحمد البدوي، والأحمدية الرفاعية تدعيه للرفاعي، فهم يزعمون أن الله تبارك وتعالى قد أنابهم ووكلهم، وفوض إليهم تصريف السموات والأرض، وأطلعهم على علم الغيب!!
    ومن أشهر الفرق التي ضلت في هذا السبيل الروافض ؛ فإن كتبهم تصرح بأن أئمتهم يعلمون الغيب؛ فهم يعلمون ما كان وما سيكون، وقد جعل صاحب أصول الكافي لذلك باباً، فقال: باب أن الأئمة يعلمون ما كان وما سيكون.. إذاً ماذا بقي لرب العالمين سبحانه وتعالى؟!!
  2. بيان اختصاص علم الغيب بالله تعالى وشموله للكليات والجزئيات

    فهذه الفرق ضلت في هذا الأمر، وهي لم تنكر علم الله، لكنها أشركت مع الله سبحانه وتعالى غيره في علم الغيب المطلق، الذي هو من خصائص الألوهية، والله تبارك وتعالى يقول: : ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[الأنعام:59]، وتقديم الظرف دليل على الاختصاص، أي أنه مختص به وحده، فهذه الآية -وغيرها كثير- تدل على اختصاص الله تعالى بعلم الغيب، كما قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا))[الجن:26].
    وهذا الغيب يشمل الجزئيات كما يشمل الكليات؛ لأنه ذكر الحبة والورقة والرطب واليابس، وليس بعد هذا من شيء .. فكل شيء يعلمه الله، حتى قطرات المطر، فإنه سبحانه يعلم أين ستقع كل قطرة من قطرات المطر، ويعلم موقع كل ذرة من ذرات الرمال، فهي من اليابس المذكور في الآية، ويعلم ذرات بخار الماء مهما دقت وصغرت، وهو من الرطب، يعلم سبحانه وتعالى أين هي، وهل هي في جوف إنسان أو حيوان يتنفس، أو على ورقة، أو في باطن الأرض، أو هي في الفضاء، فلا يخفى على الله شيء أبداً، فهو مختص بهذا العلم.. علم الكليات والجزئيات، وهما سيان عنده سبحانه وتعالى.